السبت، 21 نوفمبر 2015

عن التفكير


عاطف الكومندان
--

كتبت فيما يربو عن عام منشورا علي "فيسبوك" ما نصه (" يقول ابن سينا عن التفكير إنه انتقال الذات العارفة مما هو حاضر إلى ما ليس بحاضر، قلت: وإن قرب هذا من الحد المعين للتفكير -وان كنا غير محيطين به- فلا أدل علي تجاوز الإنسان للبعد الواحد منه") .
وللحقيقة كان ذلك المنشور بمثابة فرصة ثمينة للتندر من قبل الأصدقاء بخصوص ما كتبته من "طلاسم" بحسب اعتقادهم ، وحين تذكرت هذا هممت بكتابة توضيح فكان ذلك المقال .
عنى الفلاسفة الإسلاميون بالتفريق بين نوعى العلم-الحصولي والحضورى- لدلالة ذلك على مرتكز أصيل في فلسفة المعرفة (الأبستمولوجيا) الخاصة بالفلاسفة المسلمين في عدم الاقتصار علي استمداد المعرفة عن طريق الحواس فحسب ، فعرفوا الحصولى بأنه ما يتحقق بحصول المعلوم علي ما هو عليه في الواقع الخارجى بصورته وماهيته ، والحضورى بما يتحقق معرفته بمراتب أولها إدراك الصورة الحاضرة من خلال وساطة الجوارح وثانيها إدراك الصورة المجسمة في خيال المتصوِّر تبعا للإدراك الحسي السابق وثالثها الإدراك الكلى للأشياء المجردة عن الجسمية بنحو عام لا الصورة المتعينة بنحو خاص (1) ، وهذا ما دل عليه كلام ابن سينا في أن التفكير حالة حضورية قبل أي شيء فاختار تعريفه بذلك لأصالة ذلك فيه .
أما عن الحد فقد قال الغزالي أنه "ما يشترط فيه بألا يشتمل إلا علي الذاتيات" (2) ومن يقدم عليه لا بد أن يكون خبيرا بالتفريق بين الصفات الذاتية والعرضية ، فالحد تعريف جامع لأجزاء الشيء الواحد مقتصرا علي ما هو ذاتى فيه مانع لدخول ماليس منه فيه [وهذا ما دل عليه قولى : وإن قرب هذا من الحد المعين للتفكير .... ] ، أى إن كان قد أصاب ابن سينا في حده للتفكير عين ما حُدّ له ، والحد لا يجوز أن يتعدد لأنه مختص بالذاتيات التى بدورها لا تتعدد فقد تختلف العبارة في الدلالة علي الشيء الواحد لكن لا يختلف كنهه ، من هنا ندرك صعوبة الحد من جهة التعيين لاشتمال ذلك علي ضرورة معرفة ثنائية ذوات الأشياء علي وجه الدقة ودلالات الألفاظ المناسبة لها إن وجدت ، ولهذا رد ابن تيمية قول المناطقة بأن التصورات غير البديهية لا تنال إلا بالحد وذلك استنادا إلي ما رآه من عجز أصحاب الصناعات المختلفة عن تصور الموجودات فضلا عن الإفادة بالتصديقات حيالها ، ومثال لذلك إطلاق حدهم للإنسان بأنه حيوان ناطق في حين أن النطق صفة يشترك فيها معه غيره (3) [وهذا ما ضمنته في الجملة الاعتراضية -وان كنا غير محيطين به-] .
ومما سبق ذكره يبدو أننا بصدد المقارنة بين ما هو إصابة من حد التفكير في كلام ابن سينا وما هو دون ذلك ، وما رنا إليه ابن سينا دالٌ دلالة صريحة على عدم اختزال الإنسان في بعده المادي فحسب لأن طبيعة عمل عقله مخالفة لذلك ، وحصرها هذا هو منتج الحضارة الغربية الفلسفى الأكثر تأثيرا ، فقد عملت على توطيده وتصديره وكان من مؤداه تشيؤ الإنسان واستعباده في أبشع الصور وعلي عدة أصعدة كانت اقتصادية ، سياسية ، اجتماعية ، فكرية ، بل وحتى فيما من طبيعته التجاوز (الدينية) ... إلخ .
فاستبطان تلك الفكرة في مقابل (البعد الروحى) كفيل ببؤس الإنسان وتخبطه ونفوره من طبيعته وما جُبل عليه ، وتحقيق السعادة مقرون بمدى قربه أو بعده من تلك الطبيعة فضلا عن إدراكه تبعا لذلك ما من شأنه وجود فضاءات أوسع من أمور الغيبيات والغاية التى وُجد من أجلها ومدي قدرته على التحصيل من أمر الموجودات والباب مفتوح للكثير والكثير من ثمرة ذلك [ وهذا معنى قولى :فلا أدل على تجاوز الإنسان للبعد الواحد منه ] ، وهذا ما يفسر لنا الإبادة المنظمة والممنهجة من قبل الحضارة الغربية للعناصر غير المرغوب بها -حسب ما تعتقد- كنموذج تفسيري حاكم وكامن داخلها ينبع من الإيمان بالإنسان باعتباره كائنا مقصورا على طبيعته المادية بعيدا عن أية مفاهيم متجاوزة لذلك ، وهذا ليس بالرغم من وجود الحداثة ولكن بسببها (4) ، والله الهادى.
....................
1- أصول المعرفة والمنهج العقلي أيمن المصرى ص 32
2- المستصفي الغزالى ص13
3- الرد على المنطقيين ابن تيمية ص50
4- الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان المسيري ص197