الجمعة، 11 سبتمبر 2015

عن معرفتنا



عاطف الكومندان
--

إن المسألة الأساسية في كل فلسفة هى مسألة بدايتها(1) ، ومن المقرر عند الأكثرية من أصحاب الفلسفات أن المدخل (المعرفي/الابستمولجي) هو أقصر الطرق لبيانها ومنهجها وبنيانها ، وبحكم كون الإسلام مشتملا على رؤية كونية للحياة والكون والإنسان كان مستندا إلى رؤية واضحة المعالم مطردة لوازمها متباينة عن مثيلاتها فى أمر المعرفة، فقد قرر الفصل بين الوجود الذهنى والوجود الخارجى من حيث قرر المثاليون التماهي بينهما وقرر الماديون حصر التصور الذهنى في كونه انعكاسا للوجود الخارجي ، والمعرفة في الاسلام متمايزة بالتوافق بين مصادرها (2) ، فمن حيث أخطأ الحسيون في نفيهم ما يختص به العقل من التجريد والأحكام الكلية وأخطأ الذين يشككون في الحواس من العقليين، أجاد هو في تحقيق التكامل بين ما يختص به العقل وما تختص به الحواس ، يقول ابن تيمية "إنما يحصل العلم به -أى النظر العقلى- بعد العلم بالحس ، فما أفاده الحس معينا يفيده العقل والقياس كليا مطلقا ، فهو لا يفيد بنفسه شيئا معينا ، لكن يجعل الخاص عاما والمعين مطلقا ، فإن الكليات إنما تعلم بالعقل ، كما أن المعينات تعلم بالحس (3) ، فمع أن الحواس ليست آلة للتمييز بل للإدراك لن تستطع المعرفة العقلية مجردة أن تتم إلا بضرورة المطابقة بين إدراك المحسوسات والواقع الخارجى ، ومن حيث اختصت الحواس بالإدراك اختص العقل بمهام تتعلق بتجريد المعانى الكلية وتعميم الأحكام وأصبح بإمكانه إدراك العلاقة -السببية- بين الضرورة العقلية والغيب الممكن عقلا، خاصة مع توافر المبرر الحسى بثبوت المعجزات الدالة على وجود الأخير ، يقول الغزالى "وأكثر الموجودات معلوم بالاستدلال عليها بآثارها ولا تحس ، فلا ينبغي أن يعظم عندك الإحساس والتخيل وأن ما لا يتخيل ليس بموجود" (4)، فحتى في مفردات العلم الحديث توضع للضرورات العقلية كافة الاعتبارات بإثبات وجود بعض الظواهر بآثارها -كحركات الألكترونات والأشعة- وإن لم يعرف عن كنهها أبسط معرفة ، فكيف ينكر هذا فيما دلت عليه مشاهدات الكون كلها وشهادات العقلاء ومعجزات الأنبياء ؟! الحاصل أن الذهن يعجز عن إدراك كنه الغيب بالحس وقد أفاد مفكرو وفلاسفة الإسلام في بحوثهم إلى محدودية العقل في إدراك مجموعة متنوعة من الإدراكات والحقائق مثل الأمور والقضايا الغيبية أو قضايا الألوهية والنبوة والروح .... إلخ (5) ومن هنا جاء الوحى مصدرا سمعيا للمعرفة البشرية وبدا افتقار الانسان إلى استمداد المعرفة الغيبية منه فحسب ، يقول سيد قطب عن بعض المتفلسفة أنها "ظلت تجاهد بعقولها المحدودة من ذات الله والمعرفة الحقيقية المغيبة عن غير طريق الكتب المنزلة ، وكان منهم فلاسفة حاولوا تفسير هذا الوجود وارتباطاته ، فظلوا يتعثرون كالأطفال الذين يصعدون جبلا شاهقا لا غاية لقمته، أو يحاولون حل لغز الوجود وهم لم يتقنوا بعد أبجدية الهجاء! وكانت لهم تصورات مضحكة -وهم كبار الفلاسفة- مضحكة حقا حين يقرنها الإنسان إلى التصور الواضح المستقيم الجميل الذى ينشئه القرآن ، مضحكة بعثراتها ، مضحكة بمفارقاتها ، ومضحكة بتخلخلها ، ومضحكة بقزامتها بالقياس إلى عظمة الوجود الذى يفسرونه بها (6) ، ومما سبق يبدو تمايز الإسلام -والإسلام وحده- عن غيره بتصور مطرد متعاضد في أمر المعرفة ومصادرها فى نظم متعاقب متين ، محدثا نظاما صالحا لكل المتغيرات ومصلحا لكل التخبطات ، من حيث أن الاستقرار على رؤية معرفية كهذه هو المكون الأكبر في إيجاد منهج للاستدال على نفس الشأن من الوفاق والاتساق ، وبحيث يكون عصيا على الاختراق في ظل اضطراب الأفكار في بحار الزيغ والإنكار .. والله الهادى .


_____________________________________________________


1 - ما هى المادية روجيه جارودى ص5


2 - انظر المعرفة فى الإسلام مصادرها ومجالاتها عبد الله القرنى ص25


3 - درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ج7ص274


4 - معيار العلم للغزالى ص63


5 - نظرية المعرفة فى الإسلام دراسة مقارنة جعفر عباس حاجى ص242


6 - فى ظلال القرآن سيد قطب 3731