البحر زيدون
--
النقد في اللغة يعنى الخدش أو اللدغ ، ونقد الدراهم وانتقدها أى أخرج منها
الزيف ، ونلحظ أن الدلالة قد تغيرت من مجرد الخدش المادى إلى الخدش المعنوى وهو التفريق بين الجيد والقبيح ، و
النقد كان ملازما للفن منذ نشأته ونستطيع القول بأن ازدهار علم النقد مرتبط
بازدهار المادة الأدبية الواقع عليها فعل النقد ، فتعظيم العرب للشعر الذي
يلحظ من قول عمر "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه" كان ملاصقا
لهم بتعظيمهم النقد الأدبي في صورته غير الكائنة في هيئة قواعد ومذاهب
مثلما عليه الحال الآن ، ومن أشهر من يروى في ذلك أن النابغة الذبيانيّ
كانت تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها،
فأتاه الأعشى فأنشده أول من أنشد ، ثم أنشدته الخنساء ، ثم أنشده حسّان :
لنا الجَفَناتُ الغُرّ يلمعن بالضُّحى .. وأسيافُنا يقطرن من نجدة دَما
ولدنا بني العنقاءِ وابنَي محرِّقٍ .. فأكرمْ بنا خالاً وأكرم بنا ابنما
قال
النابغة: أنت شاعر لولا أنك قلت : ( الجفنات ) وهي من جمع القلة ، والأحسن
لو قلت ( الجفان ) لكثرة العدد . - وقلت : ( يلمعن ) ( في الضحى ) ولو قلت
( يبرقن ) ( في الدجي ) لكان أبلغ -لأن الضيوف في الليل أكثر طروقا- ،وقلت
أيضا : ( أسيافنا ) ولو قلت ( سيوفنا ) لكان أفضل ،وقلت ( يقطرون دما )
ولو قلت (يجرين ) لكان أفضل فجريان الدم دلالة على كثرة القتلى من الأعداء
قال حسان والله أنا أشعر منك ومنها يقصد الخنساء فقال له النابغة : يا ابن
أخي إنك لا تحسن تقول مثل قولي :
فإنك كالليل الذي هو مدركــي ..وإن خلت أن المنتأي عنك واسع
ومما يروى أيضا من أنه قد خرج عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وببابه وفد غطفان، فقال: أي شعرائكم الذي يقول:
حلفتُ، فلم أتركُ لنَفسِكَ ريبةً … وليسَ وَراءَ اللَّهِ للمَرءِ مَذهب
قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين، قال: فمن القائل:
فإنّكَ كاللّيلِ الذي هوَ مُدْرِكي … وإن خَلْتَ أنّ المُنتأى عنكَ واسعُ
قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين، قال فمن القائل :
أتَيتُكَ عارِياً خَلَقِاً ثِيابي … على خَوفٍ تُظَنّ بيَ الظّنونُ
قالوا:
النابغة يا أمير المؤمنين! قال: هو أشعر شعرائكم وغير ذلك الكثير من
الروايات التى تحفل بها كتب التراث في بيان علو الحس النقدى عند العرب
الجاهليين تبعا لبلوغ الشعر العربي حينها مبلغ من الإتقان لم يُسبق والذي
استدعى بعد ذلك التحدي لهم بنزول القرآن الكريم لأنه من جنس ما هم متفوقون
فيه .