الأحد، 13 سبتمبر 2015

ما وراء اللاعنف

أحمد مصطفى
--

يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن "حرب اللاعنف" أو "المقاومة السلمية" أو "حرب الصدور العارية" و هي مصطلحات تشير إلى النهج الذي يتبنى استراتيجيات التغيير السياسي و الاجتماعي التي تنبذ العنف و تتبنى بدلا منه مجموعة من الوسائل السلمية كالعصيان المدني و التظاهر و الاعتصام و الخ.. لتحقيق التغيير. لن أطيل الحديث عن تفاصيل "حرب اللاعنف" و تكتيكاتها و مراحلها و تاريخها فقد نشرت في ذلك كتب و دراسات كثيرة جدا، لكن ما سأحاول الوقوف عليه هو البعد الفلسفي و الأخلاقي لحرب اللاعنف فهذه من وجهة نظري هي نقطة الانطلاق الصحيحة لتقييم أية فكرة من حيث صلاحيتها أو عدم صلاحيتها قبل التطرق للجانب الواقعي.

لقد عقد "علي عزت بيجوفيتش" مقارنة بين الإسلام - بوصفه دينا شاملا لأمور الدنيا و الآخرة معا - و بين المسيحية - بوصفها دينا مجرد يقتصر على الخلاص الأخروي - و كان مما ذكر من محاور الاختلاف بين الإسلام و المسيحية موقف كل منهما من استخدام العنف، أما المسيحية فرسالتها تدعو إلى المسالمة و نبذ العنف بكل صوره و أشكاله "فالمسيحية والدين (المجرد) بصفة عامة – من حيث معارضتهما للعنف – لا يمكن لهما التأثير في أي شيء من شأنه أن يُحَسِّنَ من وَضْعِ الإنسانية من الناحية الاجتماعية، فالتغيرات الاجتماعية لا تأتي بواسطة الصلوات والأخلاقيات (وحدهما) وإنما عن طريق قوة مُدَعَّمَة بالأفكار أو المصلحة" و مما ورد في هذا المعنى في "الكتاب المقدس" : "أحبوا أعداءكم و باركوا لاعنيكم" و "لا تقاوموا الشر، و من لطمك على خدك الأيمن فقدم له الآخر أيضاً" اهـ.

يتضح مما سبق أن فكرة نبذ العنف نبذا مطلقاً هي فكرة مسيحية بامتياز تتسق مع كون المسيحية دينا مجرداً يعنى بإصلاح النفس البشرية فقط بمعزل عن الحياة الاجتماعية، و هذه الفكرة أيضاً توجد في الأديان المجردة الأخرى فعلى سبيل المثال تظهر مبادئ اللاعنف في الفكر الديني الهندي بقوة و تعد أفكار غاندي عن "اللاعنف" امتداداً لها في فلسفته المسماة "الساتياغراها" و هي أسلوب للنضال عن طريق اللاعنف و الكفاح المدني و تعد البداية الحقيقية لفكرة "حرب اللاعنف" في الفكر السياسي المعاصر، كما أن هذه الفلسفة ألهمت كلاً من "مانديلا" و "لوثر كينج" في نضالهما السياسي. لم يكن غاندي ينظر إلى اللاعنف بوصفه خياراً استراتيجياً أو تكتيكياً فقط، بل كان ينظر إليه كخيار أخلاقي، فاستخدام العنف من وجهة نظره ليس أمراً عادلاً تحت أي ظرف من الظروف كما أنه لا يؤدي إلى نتائج عادلة فـ"الوسائل للنتائج، كالبذرة للشجرة".

لا بد أن نذكر أيضاً أن "اللاعنف" الذي استخدمه غاندي ضد الاحتلال البريطاني للهند كان أمراً مرحباً به بشكل أو آخر من قبل البريطانيين في ظل المقاومة الإسلامية التي كانت موجودة في الهند إبان الاحتلال و التي كان غاندي أحد أسباب فشلها و احتوائها بحراكه "السلمي" الذي أدى في نهاية الأمر و بعد رحيل الاحتلال البريطاني ظاهرياً إلى تقسيم الهند و القضاء على الوجود الإسلامي فيها و في ذلك يقول الأستاذ أنور الجندي رحمه الله: "لقد كانت دعوة غاندي إلى ما سماه اكتشاف الروح الهندي الصميم، والرجوع إلى الحضارة الهندية، هو بمثابة إعلان حرب على الحضارة الإسلامية التي عاشت على أرض الهند أربعة عشر قرناً، وغيرت كل مفاهيم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل إنها قد غيرت مفاهيم الهندوكية نفسها".

ما حدث في الهند قبل عقود تحت راية "اللاعنف" يحيلنا إلى الواقع مرة أخرى، و يساعدنا على تفسير هذا الاحتفاء الغربي الكبير بفكرة اللاعنف حتى أن هناك العديد من المراكز البحثية و منظمات المجتمع المدني الأمريكية و الأوروبية أنشأت خصيصاً لدعم حراك التغيير "السلمي" في دول العالم الثالث من أجل تحقيق "التحول الديمقراطي" مثل معهد "ألبرت أينشتاين" و "صناع السلام المسيحيين" و "منظمة اللاعنف العالمية" و غيرها من عشرات المنظمات التي تنفق ملايين الدولارات في هذا المجال، كما أن هذه المنظمات توفر دورات للنشطاء السياسيين في مختلف الدول بما فيها الدول العربية و الإسلامية من أجل النضال ضد الدكتاتورية و تحقيق الديمقراطية، كما أن هناك منظمات عربية أيضا تعمل في نفس المجال.

في تقديري هناك العديد من الدوافع التي تحرك الغرب لدعم فكرة اللاعنف لا سيما في الدول العربية و الإسلامية منها محاربة أفكار التغيير المسلح التي تتبناها التيارات الإسلامية الجهادية - و التي تهدد مصالح الولايات المتحدة بشكل مباشر - كما أن هذه الحركات التي تبنت الحراك المسلح للتغيير السياسي في الدول الإسلامية شكلت الحاضنة التي خرجت منها حركات "الجهاد العالمي" و حركات المقاومة المسلحة في مختلف الأقطار الإسلامية و التي تعد الخصم الأول للولايات المتحدة في "الحرب غلى الإرهاب"، فوجود بديل لفكرة التغيير المسلح و نجاح هذا البديل و دعمه داخلياً و خارجياً هو أحد استراتيجيات الخرب على الإرهاب. كما أن أحد الدوافع التي تحرك الغرب لدعم فكرة اللاعنف عالمياً هو أن فكرة السلمية فكرة رأسمالية بامتياز لأنها تتيح فرصة للتغيير السياسي الظاهري فقط و الغير مؤدلج مما يقطع الطريق على أي ثورة أيديولوجية تتبنى أيديولوجيا ضد الرأسمالية كالاشتراكية على سبيل المثال.

و قد أثبت التاريخ أن "الثورات السلمية" و الغير جذرية لا يمكن أن تؤدي إلى تغيير حقيقي سياسياً و اقتصاديأً و اجتماعياً يؤدي إلى التحرر من التبعية للغرب، لكنها تتيح فقط تغيير أشخاص النظام السياسي الموجود بالفعل و في أحسن الأحوال تؤدي إلى استبداله بنظام أقل قمعاً - من الناحية الظاهرية - و أقل فساداً و ربما أكثر استناداً على الرضاء الشعبي لكنه بحال من الأحوال لن يكون نظاماً تحررياً و إلا سيتم إجهاض تجربته عاجلاً أم آجلاً نتيجة لعد قدرته على المقاومة و الصمود.